على الداعية ألا يزكي نفسه عند الناس، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل، ويحمد ربه سبحانه وتعالى أن جعله متحدثا إلى الناس، مبلغا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشكر الله على هذه النعمة، فإن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: الآية 21]، وقال له في آخر المطاف بعد أن أدى الرسالة كاملة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر].
قال أهل العلم: أمره أن يستغفر الله فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه، ويقول: أنا آمركم دائما وتعصونني! وأنهاكم ولا تمتثلوا نهيي! وأنا دائما أقول، أو أنا دائما أحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها؟!
فيخرج نفسه من اللوم والعقاب، وكأنه بريء!! فهذا خطأ. بل يجعل الذنب واحدا، والتقصير واحدا، فيقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة،وأخطأنا كلنا، فما نحن إلا أسرة واحدة، فربما يكون من الجالسين من هو أزكي من الداعية، ومن هو أحب إلى الله وأقرب إليه منه!
عدم الإحباط من كثرة الفساد والمفسدين
ينبغي ألا يصاب الداعية بالإحباط، وألا يصاب بخيبة أمل، وهو يرى الألوف المؤلفة تتجه إلى اللهو، وإلى اللغو، والقلة القليلة تتجه إلى الدروس والمحاضرات، فهذه سنة الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: الآية 62]. فإن الله ذكر في محكم تنزيله أن أهل المعصية أكثر، وأن الضلال أكثر وأن المفسدين في الأرض أكثر، فقال: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: الآية 13].. وقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [الأنعام: الآية 116] وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: الآية 103].. وقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: الآية 99].. وقال: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: الآية 22]..
{لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: الآية 66].. {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: الآية 48].. فنحن لا نملك سوطا ولا عصى، ولا عذابا ولا حسابا، إنما نملك حبا ودعوة وبسمة ونقود الناس بها إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فإن أجابوا حمدنا الله، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم لله الذي يحاسبهم سبحانه وتعالى.
قال بعض العلماء: (الكفار في الأرض أكثر من المسلمين، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة أقل من غير المخلصين)!
ومن صفات الداعية أيضا أنه يعيش واقع الناس ويقرأ حياتهم ويتعرف على أخبارهم، وقال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: الآية 55].
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه أحيا رسوله أربعين سنة في مكة، عاش في شعاب مكة، وفي أودية مكة، عرف مساربها ومداخلها، عرف الأطروحات التي وقعت في مكة، وعرف بيوت أهل مكة، واعترض الكفار. وقالوا: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: الآية 8].. فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه لابد أن يكون بشرا، يعيش آمال الناس، ويعيش هموم الناس ومشاكلهم، ويعرف احتياجاتهم.
فحق على الداعية أن يقرأ واقعه، ويستفيد من مجتمعه، وأن يعرف ماذا يدور في البلد؟ وماذا يقال؟ وما هي القضايا المطروحة؟ ويتعرف حتى على الباعة، وعلى أصناف التجار، وعلى الفلاحين، وعلى طبقات الناس، وأن يلوح بطرفه في الأماكن، وفي مجامع الناس، وفي الأسواق وفي المحلات، وفي الجامعات، وفي الأندية، حتى يكون صاحب خلفية قوية، ويتكلم عن واقع يعرفه.
لذا جعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ تاريخ هذا البلد وكان بعض العلماء إذا سافروا إلى الخارج يأخذون مذكرات عن البلد، وعن تاريخه، وعن جغرافيته، وعن متنزهاته ويتعرفون على طبيعة أهله، وكيف يعيشون وماذا يحبون، وماذا يكرهون؟! ويتعرفون على كيفية التربية في هذا البلد.. حتى يتكلموا عن بصيرة.
الكاتب: د. عائض بن عبد الله القرني.
المصدر: مجلة البشرى العدد التاسع والعشرين.